تسعينيةٌ من غزة تهوى التطريز وتبوحُ بـسر “بركة العمر”

Rayan12 يوليو 2019
تسعينيةٌ من غزة تهوى التطريز وتبوحُ بـسر “بركة العمر”

غزة تايم – قالت إن والدها أسماها “حَرْبة” لأنها وُلِدَت في عامٍ غزا الجرادُ فيه فلسطين، حينها -كما أخبرَها هوَ- كان منهمكًا في حفر الخنادق لـ”محاربة” الجراد الصغير الزاحف، وحرق الأغصان اليابسة لخنق الجرادات ذات الأجنحة وقتَ هاجمت أرضه شمال غرب بئر السبع؛ ودمرت محاصيل القمح والشعير والبصل. حدث ذلك عام 1930.

والدها أسماها “حَرْبة” لأنها وُلِدَت في عامٍ غزا الجرادُ فيه فلسطين، حينها كان منهمكًا في حفر الخنادق لـ”محاربة” الجراد الصغير الزاحف

يبلغُ عمر حربة اليوم تسعين سنة، لكنها تعودُ إلى عمر تسع سنوات، إذا ما سألتها عن طفولتها في “بيت الشعر” بين أبناء عشيرتها “الحناجرة” قبل عهد النكبة؛ حين قرّر والدها في “ليلةٍ غاب عنها ضوء القمر” هدم خيمتهم، والانتقال إلى سفر ساعة على جمَلْ فوق رمال النقب، خجلاً من شكوى تقدمت بها إحدى الجارات لأمها مسعودة ملخّصُها، “حربة أخذت من بيتنا كرة صوفٍ دون إذن”.

بعد تسعة عقودٍ على تلك الحادثة، تقضي الحاجة حربة عيادة أبو زكري معظم يومها في غرفةٍ جدرانها من سعف النخيل الجاف غرب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تُدحرِجُ بأصابعها المجعدة الكثير من كُرات الصوف الملوّنة. تلف الخيطان على بعضها البعض، وتصنع العُقَدَ بدقة. تغيب في العمل بضع ساعاتٍ ثم تصحو وقد أنجزت تحفةً فنية بدوية الطراز: حقيبة، أو عصا لحفلات الرجال، أو حتى مَضْيَفَةَ حلوى مزينة بكريستالٍ جمعته من فستان عروسٍ قديم.

حربة التي تنتمي إلى جيل “الأُصول المُتقنة”، استقبلتنا بامتعاض لأننا وصلنا قبل الموعد بربع ساعة، فهي لم تُصلّ الظهر بعد، ولم ترتدِ “العدّة” حسبما قالت لحفيدها إلياس بنبرة تأنيبٍ مسموعة (كانت تقصد بالعدة، ثوب السبع الذي تحتفظ به مذ كانت صبية). ولك أن تتخيل صديقي القارئ كيف نطقَ زميلٌ لنا عبارة “ما شاء الله” عندما وقفت حربة من مضجعها على الأرض فجأة! بدا ظهرها شديد الانحناء، لكن خطوتها كانت ثابتة وهي تتجه نحو “قُلةٍ” من الفخار توضّأت من مائها وحدها.

تركتنا وصلّت ثم عادت على الموعد تمامًا؛ لتكسر بعفويتها قواعد المقابلة الصحفية، فلا هي انتظرت منّا أسئلة كسر جليد، ولا أسئلة افتتاح. بدأتْ من حيثُ أرادت هيَ بعد أن قالت بلهجةٍ بدويةٍ أصيلة: “عيفوني أحكي اللي أريده”. في الحقيقة لولا إلياس لما فهمنا أياً من كلامها، فالعمر فعل بصوتها أفاعيله.

استذكرت أيام “السبع” حين كانت تقضي ساعات النهار في رعي الإبل والنعاج، وخضِّ قِربة الجلد لاستخلاص السمن من الحليب، أو طبخ الذبائح لضيوف بيتها. تضيف، “كانت الحياة صعبةً جدًا، كان يومنا كله للعمل، وكانت الأمراض مستشرية. كنا نتطبب عند عطارِ القبيلة الذي كانت له طرائق غريبة في العلاج”. على سبيل المثال -والحديث لحربة- قد يستخدم روث الإبل أو بوله في تحضيرِ دواءٍ لمعالجة الرمد!

كنا نتطبب عند عطارِ القبيلة الذي كانت له طرائق غريبة في العلاج. مثلاً قد يستخدم روث الإبل أو بوله في تحضير دواءٍ لمعالجة الرمد

كانت حربة في حقبة “احتلال الإنجليز” (1917- 1948) تجوب بحلالها “أرض الله الوسيعة” على حد قولها، وتعود في آخر النهار لتكمل واجباتها المنزلية. كانت تسمع الكثير عن ظلمهم للثوار بعد أن تزوجت أولى زيجاتها -وكان عمرها 13 سنة- فتقول: “كانوا يعتقلونهم بالجملة، ويستخدمون معهم شتى أساليب التعذيب: الضرب بالفلقة والكي وحرق الشوارب وخلع الأظافر والشنق حتى الموت، وحتى القتل بالخازوق”.

في السبع كانت تربية “الطِّنيات” (الأطفال بلهجة البدو) دقيقةً جدًا، فليس من المروءة أن يتعدّى صغيرٌ على كبير حتى باللفظ، ولا من الأصل أن يمدّ أحدهم يده على ما لا يملك، ولا من الجود السماح لضيف القبيلة بالمغادرة قبل ثلاثة أيام تُلبّى فيها احتياجاته كلها.

عند هذه النقطة جذبتني إليها وهمست، “مش مثل ترباية هالأيام، الصغير يغلط ونقول جُهَّال. الصغير لا بد يتعلم”. حربة التي لا تذكر أن والدها وقف إلى صف أخيها الوحيد شحادة يومًا (على خطأ)، كانت حانقةً جدًا وهي تستذكر موقفًا حدث قبل سنواتٍ قليلة حين مرّت بها شابةٌ برفقة صديقتها فسألتها إحداهما: “بدك جوز يا حجة؟” لتصفعها بالرد حين قالت لها: “لاقي إنتي جوز، والله ينطيش (يعطيكي) العافية”، فردت الفتاة قائلة إنها كانت تقصد بالجوز “عين الجمل الذي يُؤكل”.

لم تشأ التطرق إلى تاريخ النكبة كثيرًا، فهي من الأحداث التي وعت لها “أُمًا وزوجة”، وفقدت والدها خلالها شهيدًا حين نفذت قوات الجيش الإسرائيلي عملية “يؤاف” في تشرين أول/أكتوبر من عام 1948، التي احتلت على إثرها بئر السبع، بعد أن هجّرت سكانها “معظمهم نحو الأردن” وبعضهم نحو غزة.

في غزة عاشت حربة برفقة ابن عمها حمّاد غربًا في أرضٍ هي امتدادٌ لأراضيهم من بئر السبع، وأنجبت بالإضافة إلى طفليها اللذين أنجبتهما قبل النكبة تسعةً آخرين، بينما لم يتغيّر نظام حياتها منذ ذلك الحين حتى هذا اليوم.

تستيقظ حربة بعد الفجر، تصلي، وتشرب كوبًا من حليب البقر يرسله لها أحد أبنائها كل يوم، تمشي بتؤدة نحو دجاجاتها البلديات، ترشُّ العلف وتجمعهن بشيفرةٍ سرّية حين تبدأ بالمناداة: “تيعا- تيعا- تيعا”.

تأخذ بعدها مكنسةً صنعَتها من “قنو” بلحٍ جاف، تكنس بها الأوراق المتساقطة تحت أشجار الزيتون في مساحة (800 مترٍ) هي نصيبها من ميراث زوجها الذي توفي عام 1993، ولكن هذه المهمة قد تتكرر أكثر من مرةٍ في النهار الواحد تحت مبرر “وإفرضي إجاني ضيف غريب، تريدينه يقول أرضي ماهي نظيفة؟!”.

تنتهي حربة من كنس الأوراق وجمعها في كيسٍ كبير، ثم تتجه نحو دفيئةٍ بدائيةٍ صنعتها بنفسها فحوّطتها بأغصان الأشجار اليابسة، ومدّت خلالها خراطيم ماء جعلت لها بعض الفتحات من أحد الجوانب، ثم غطتها بقطع قماشٍ بيضاء خفيفة. تطمئنُّ هناك على زرعها من البقدونس والجرجير والنعناع والبصل، ثم تأخذ ما يكفي لطعامها وتغادر.

تصلي الظهر، وتتناول “المبصّلة” (أكلة مشهورةٌ لدى البدو مكوّنةٌ من البصل المقطع والبندورة والفلفل الحار وزيت الزيتون والملوخية المجفّفة المفروكة، وبعض الملح والليمون). يؤكد حفيدها إلياس أنها تتناولها بشكلٍ شبه يومي على الغداء، بالإضافة إلى ما يجود به بيت أبيه من طعامٍ تزيده عليها.

تأكل حربة اللحم إلا ذبيحة البيت، ولا من الدجاج إلا الذي تربيه بيدها، وتكثر من شرب زيت الزيتون

لم تسمح له بمتابعة الحديث بالنيابة عنها فقاطعته قائلة: “أنا ما آكل لحم إلا ذبيحة البيت، ولا آكل إلا من الدجاج اللي أربيه بيدي”، فالتطعيمات التي تعطى للمخلوقات اللاحمة -على حد تعبيرها- هي المرض بذاته. تعتمد حربة في غذائها على الخضراوات والقمح وتكثر من شرب زيت الزيتون، وهذا برأيها قد يكون سبب الصحة التي تتمتع بها بعد هذا العمر كله.

بعمر التسعين، تنزعج الحاجة حربة من أي عرضٍ للمساعدة قد يقدمه لها ابنٌ أو حفيد خلال وقوفها أو مشيها أو القعود. تخدمُ نفسها بنفسها، وتصوم رمضان كله، بل وتشارك في صناعة كعك العيد أيضًا.

هي لا تعاني من أي مرضٍ حاليًا إلا تبعات “فتق” أصابها قبل خمسين سنة، وضعفٌ في السمع. لا ضغطٌ ولا سكر، وأغلب دعائها: “يا الله لا تجعلني في يوم أحتاج غيرك”.

الوقت الذي تنسى فيه حربة أن كرة العمر باتت تتدحرجُ بها نحو المئة هو حين تفتح كيس خيطانها، وتبدأ بتحريكها بين أصابعها، فتعود إلى أجمل الذكريات: حين كانت طفلةً تعلمها أمها أصول صنع حقيبةٍ لوضع الزاد، أو إلى ذلك الزمان الذي صارت هي تعلم فيه بناتها وصديقاتهن كيف يصنعن الغرزة البدوية.

حربة التي تتهم أحفادها الشباب بـ”الجنون” كلما رأتهم يضحكون لما تسميه هي “قطع الحديد الصغيرة” بين أيديهم (وتقصد هواتفهم)، تحدثهم دائمًا عن أن الله يبارك في عمر “الساعي” بينما “القاعد” لا ينال نصيبًا من “الرضا” أبدًا. تستدرك، “الله يعطي الإنسان على قدر عمله، وقت الفراغ الذي يمر دون أن يستغله الإنسان سعيًا في الأرض إنما هو وباءٌ لا شفاء منه إلا لمن رغِب”.

لا تزال حرب” تحفظ الكثير من أبيات الشعر البدوية، قالت تلخّص الحكمة في بضع كلماتٍ لا تستطيع بعد سماعها إلا أن تقول “الله”:

صمتك وقار وكثرة الحكي منقود

ورزقك على الله والمراجل وهايب

لا تفرح بكلمة نَعم، وانت موجود

احرص على قولة “والنِّعِم” وانت غايب

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

x