في أحد الشوارع الرئيسة داخل قطاع غزة، حاول شاب تصوير فتاة محجبة بهاتفه المحمول، من دون إذن مسبق منها، ولم يكن أمام الفتاة إلا طلب المساعدة من المارة، وما هي إلا ثوان وتحول المشهد إلى معركة ضرب عنيفة وتكسير للهاتف.
لم تنقذ كلمات “كاميرا خفية”، التي كررها الممثلون في برنامج المقالب، الشاب من الضرب وهجوم المارة، الذين ما انفكوا عنه إلا بعد تمزيق ثيابه وإصابته بجروح في الوجه.
من المفروض أن هذه اللقطات هي مشهد كوميدي ساخر ومضحك في الوقت ذاته، ويعرض في قالب برنامج كاميرا خفية، لكن هذا المقطع المصور أثار غضب سكان غزة بعد مشاهدته على التلفزيون، الذين اعتبروا أن هذه البرامج لا تحمل أي محتوى، وبسبب فقرها إلى الهدف عرضت الممثلين للعنف الجسدي.
المجتمع والعنف
الأمر لم يقف عند إظهار مجتمع غزة بأنه عاشق للعنف، وجميع ردود فعله سلبية، واليد تسبق اللسان، بل أيضاً يعتقد المشاهدون أن هذه اللقطات خارجة على القيم المجتمعية، إذ من المعروف عن سكان القطاع أنهم محافظون.
ومن الصعب، بل يكاد يكون مستحيلاً، أن يتجرأ شاب على تصوير فتاة في شارع عمومي وأمام المارة. وفكرة تجسيد ذلك تأتي في سياق مخالف لعادات وتقاليد المجتمع، الذي ينبذ هذه التصرفات.
تعد الكاميرا الخفية نوعاً من البرامج المصنفة بأنها ساخرة أو مضحكة، وتعرض عادة في سياق مقالب يتعرض لها الضيف من مقدم البرنامج، وتحمل غالباً رسائل وتعالج قضايا مجتمعية مهمة عبر سياق كوميدي.
لكن في غزة يبدو أن الأمر ليس كذلك، ووفق مختصي الإعلام الكوميدي، ومقدمي الرعاية النفسية، فإن برامج الكاميرا الخفية التي تعرض في القطاع ليست مضحكة ولا ساخرة، ولا تحمل قالباً كوميدياً من الأساس، وإنما تعرض الأشخاص لمزيد من الضغط النفسي.
12 برنامجًا في الموسم
منذ 12 عاماً، تنتج غزة برامج الكاميرا الخفية، وعادة تعرضها القنوات الفلسطينية المحلية في شهر رمضان، وهذا الموسم أنتج القطاع نحو 12 برنامجاً، لكن القنوات التي تعرضها أوقفت ثلاثة منها بسبب المحتوى، وكثرة الانتقادات.
وكان من بين البرامج، التي أوقف بثها، “بس استنى”، الذي عرض حلقة يمثل فيها أحد أعضاء فريق البرنامج أنه مقعد على كرسي متحرك ويتهرب من سداد مبلغ صغير، فيما يهينه عضو آخر من الفريق، ويطالبه بالدين أمام الناس بغضب ومزيد من الاشمئزاز، الأمر الذي اعتبره سكان غزة إهانة بحق ذوي الإعاقة، ويظهرهم بالمتسولين غير المنتجين.
انزعاج
محمد الشاعر، من ذوي الإعاقة الحركية، قال إنه انزعج من مضمون الحلقة، ومن كلمات كانت جارحة ومهينة لهذه الفئة، التي بات عدد كبير منهم منتجاً وفعالاً في المجتمع ويستطيع العمل حتى تحت ظروف صعبة.
الفنان محمد فيصل، بطل برنامج الكاميرا الخفية “بس استنى”، يرى أنه لم يسئ إلى أي فئة من المجتمع، موضحاً “دائماً البرامج الخفيفة، التي تخرج من غزة، تتعرض للهجوم حتى وإن حصدت المشاهدات.
والسبب هو أن الناس ترى أنه لا ينبغي تقديم أعمال غير تلك التي تمجد المقاومة، نحن كشعب ننتقد أي محتوى ترفيهي محلي يعرض على القنوات من دون أي مبرر”.
ضرب واستهتار وإيحاءات جنسية
من بين البرامج التي لا يزال بثها جارياً، وعرضت حلقات لقيت جدلاً واسعاً، برنامج “جيت لحالك”، الذي تدور أحداثه في سيارة أجرة.
وفي 22 حلقة من مجموع حلقاته الثلاثين، تعرض مقدمه الممثل الكوميدي إسلام أيوب للضرب أو للاعتداء اللفظي، بعد استفزاز ضحاياه إلى أقصى درجة، وبهذا يكون قد أظهر مجتمع غزة بأنه يعيش وسط غابة تقوم على الضرب والتهديد والشتم. وفق التحليل الفني لمتخصصين في الإعلام.
في هذا البرنامج أيضاً، تطرق الممثل الكوميدي إلى الاستهتار بقضايا وطنية فلسطينية، منها قضية الأسرى في سجون إسرائيل، حينما عرض حلقة قال فيها لضحية المقلب، إن الأسرى غير مهمين ولم يقدموا شيئاً للقضية.
وكذلك عرض مقلباً يقول فيه المقدم، إنه يجب على العمال من غزة، الذين يعملون في السوق الإسرائيلية العمل مهما كانت الظروف، موحياً بأنهم يجب أن يعملوا حتى لو طلب منهم التجسس، وذلك من أجل استفزاز ضحايا المقلب.
وأيضاً لم تخل مشاهده من الإيحاء الجنسي، إذ ادعى في إحدى حلقاته أنه ممثل عن جمعية الصداقة الفلسطينية الأوكرانية، التي تعمل على إيواء شابات أوكرانيات هاربات من الحرب داخل غزة ويرغبن بالزواج.
الحلقة أغضبت كثيرين، خصوصاً مشهد أظهر رجلاً وصف نفسه بأنه “فحل”، وأراد من مقدم البرنامج أن يحضر له شابة أوكرانية بسرعة حتى يتزوجها، وتعهد بطرد ابنه من الشقة العلوية في منزله لأجلها.
هذا البرنامج، المقتبس من برنامج مصري يعرض المقالب داخل “سيارة تاكسي” لم يتوقف في تنميط سكان غزة بأنهم عصبيون ولا يقبلون النقاش. ما أثار غضبهم على أساس أن مضمونه مسيء، وطالبه المشاهدون بحذف بعض الحلقات حتى وإن كانت في قالب كاميرا خفية.
تبريرات
يبرر مقدم “جيت لحالك”، إسلام أيوب، ما يقوم به بأنه يهدف إلى رسم الابتسامة على وجوه سكان غزة، ولا يقصد التجريح بأحد.
وقال “الناس تحتاج لوجبة من الضحك”، أشار إلى أنه يقدم مواضيع هادفة لمعالجة مشكلات كثيرة، تعكس معاناة الناس من خلال القالب الكوميدي. مشدداً على أن “ما طرحناه من مواضيع اجتماعية وسياسية لم نقصد فيها أي تجريح لأشخاص أو إظهار المجتمع بأنه عنيف”.
ولم ينفِ أيوب أنه تعرض خلال تصوير برنامجه لمواقف محرجة جداً، موضحاً “أحدهم مزق ملابسي، وهناك من رفع أدوات حادة في وجهي، وهناك من لاحقني بعد الوصول لذروة الاستفزاز وفق سيناريو الحلقة”.
وعلى الرغم من إقرار أحمد حرب، مدير برامج قناة الكوفية، التي تعرض “جيت لحالك”، بأن برامج الكاميرا الخفية لا تلقى رضا بعض المواطنين، إلا أنه يعتبره البرنامج الأفضل والأقوى على مستوى فلسطين، حيث استطاع أن يصل لكل بيت.
ويرى أنه “كنا عند حسن ظن المواطنين بالمواضيع التي طرحت ولامست احتياجاتهم”.
وقال حرب، “على الرغم من كم الجدل حول مثل هذه البرامج، لكن على الأقل نحن حافظنا على تصوير الحلقات في الجانب الاجتماعي والسياسي والوطني، وطرحنا موضوعات مهمة للمواطن وقضايا كان يجب أن نسلط الضوء عليها كقضية الأسرى والقدس، وأيضاً قضية ذوي الإعاقة، وهذا ينم عن مسؤولية اجتماعية تجاه المجتمع وقضاياه”.
مقص الرقيب
كثرة الانتقادات دفعت مكتب الإعلام الحكومي إلى التحرك وتفعيل مقص الرقيب. وقال رئيسه سلامة معروف، إن برامج الكاميرا الخفية تجربة مستحدثة، وربما لم نشهدها بهذا الكم خلال السنوات الماضية، هذا الأمر يستدعي ضرورة العمل من أجل وضع ضوابط ومحددات لتنظيمها في غزة.
وأكد معروف رصد كثير من المشاهد السلبية، التي وصلت حد الإسفاف في بعض الحلقات، وتسببت في انتقاد على المستوى الاجتماعي والذوق العام، مشيراً إلى أن ذلك يدعوهم للعمل الجاد لوضع الضوابط المنظمة لهذه البرامج.
المصدر: اندبندنت عربية