غزة تايم – في مكانٍ آخر من بلدٍ بعيد، حسِبوا أنه مرفأ النجاة من واقعٍ عقيمٍ وأليم إلى حياةِ النعيم، وأنّ آمالهم في عيش حياةٍ كريمة آمنة ستتحقق هناك، لكن الواقع هُناك باغتهم بالعكسِ، وبدّد آمالهم، والآن يُطاردهم شبح الموت؛ ضربًا أو غرقًا أو جوعًا، وحتى انتحارًا.
شبابٌ كُثر من قطاع غزة لم يحلموا سوى بواقعٍ بلا حروب وفقرٍ وظلمٍ وقمع، وبعد أن تقطّعت بهم السبل ظنّوا أن الخلاص يكمن بالخروج من القطاع، والهجرة إلى الدول الأوربية.
تواصل عددٌ منهم م ليكشفوا واقعًا مُرًا علقمًا، تجرّعوه عقب وصولهم إلى مخيمات اللجوء في اليونان، طلبًا للّجوء، ورووا تفاصيل ما عايشوه وتعرّضوا له هناك.
الشاب عوّاد (22 عامًا) كان الأمل الوحيد لعائلته التي ما زالت تنتظر منه أن يُنزلها عن جبال الديون التي تزداد يومًا بعد يوم، وأن يحقق حلمها بتزويجه.
“بدي أعمل إشي لأهلي”، بهذه الكلمات بدأ حديثه وأكمل “خرجتُ من غزة في شهر يوليو 2018، بعدما انتظرتُ عامًا ونصف العام على قوائم المُسافرين، وبعد عناء السفر ومشقّة الطريق وصلتُ تركيا ، ومن بعدها اليونان في مركب الموت عبر البحر”.
الشاب العشريني الذي كان يحلم بأن يُصبح محامٍ، لم يتمكّن من إكمال دراسته الجامعية بسبب ظروفه الاقتصادية الصعبة، وهو ما دفعه للخروج من غزة أملًا بنيل أبسط حقوقه، وليعيش حياته بسلامٍ كأقرانه في مختلف بقاعِ الأرض، قال “خرجنا من غزة لأننا محرومون من أقلّ الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها باقي شعوب العالم”.
الوصول إلى اليونان كان هو الهدف لعوّاد وكثيرٍ من الشبّان الذين غادروا قطاع غزة معتقدين أنهم سيحصلون على الحماية والحقوق التي كانت ضائعة بالنسبة لهم، وهنا كانت الصدمة.
تابع عوَّاد حديثه “مرارًا وتكرارًا كُنت أحاول الخروج من تركيا إلى اليونان، واحتجزني خفر السواحل التركي 3 مرات، وفي الرابعة تمكّنتُ من الوصول، بعد اجتياز طريق الموت (البحر)، ووصلت إلى اليونان مُعتقدًا أنني سأحصل على الحماية وحقوقي كافة”.
“انتظارُ ساعاتٍ في طابور الإفطار، وكذلك الغداء والعَشاء، لم يكن بالأمر الهين بالنسبة لي ولرفاقي، فهذا مشهدٌ لم نرَه في بلدنا من قبل، لكنّ الجوع يجبرنا على الانتظار. وبعد الوقوف الطويل ربما تتسلّم وجبة الطعام، أو لا تتسلّمها، فقد يصدمك الشرطيّ بكلمة (فينِش) أيّ لم يتبقَّ شيء، لتظلّ بعدها بأمعاءٍ خاوية حتى الوجبة التالية”.
ويطال هذا الإهمال الأوضاعَ الصحيّة بمخيمات اللّجوء في البلد الأوروبي ذاته. وبحسب منظمات حقوقية “تتجمّع أكوام القمامة في أزقّة المخيمات، ولا تفي دوراتُ المياه بحاجة السكان، ما يضطّر اللاجئين، سيّما الأطفال وصغار السن إلى قضاء حاجاتهم في الخلاء، ما جعل مخيمات اللجوء مرتعًا لمسببات الأمراض.
جانبٌ آخر كشفه الشاب يوسف، الذي يعيش على جزيرةٍ أخرى في اليونان، إذ قال “أقطن خيمةً منذ 60 يومًا، ننام على الأرض، ونأكلُ الأرز الناشف والرديء الذي يُقدّمه الجنودُ لنا، ونتعرض للعنف والضرب المبرح من عناصر الجيش، والذي يطالنا حتى ونحن نِيام ليلًا”.
وأضاف يوسف “العديد من الشبّان نُقلوا إلى المشافي بإصابات خطيرة بفعل الضرب، وصديقي الذي كان معي وصل لمرحلة الموت، بعد أن اعتدى عليه 15 شابًا يونانيًا”.
“نظمنا اعتصامًا سلميًا، أنا وعددٍ آخر من الشباب الفلسطيني، فكيف نسكت أمام هذا الإجرام بحقّنا، هتفنا بصوت واحد: لا للعنف، لا للضرب، ولا لانتهاك الحقوق، فما رأينا سوى قواتٍ هاجمتنا بالعِصيّ والغاز، وهذا هو حالنا، ليس باستطاعتنا فعل أيّ شيء”.
الترحيلُ، هو الخيار التالي الذي تُقدم عليه السلطات اليونانية بحق الشبّان، بعد استخدام العنف، وفق ما أوضحه الشبّان الفلسطينيين الذين تحدثوا، واللذين لا يزالون يتساءلون عن مصير محمد ومهنّد، الشابان اللذيْن تم ترحيلهما من الجزيرة ولا يزال مصيرهما مجهولًا، لتبقى الحسرة في قلوب أصدقائهما وعائلتيهما حتى الآن.
شابٌ آخر، ممّن غادروا الوطن ووقعوا في شرَك جحيم اليونان، حاول شنقَ نفسه لكنّ لحسن الحظ تمكّن رفاقُه من إنقاذه في اللحظة الأخيرة. وغيرُه ألقى بنفسه في البحر ليكون له الموت، مُعتقدًا أنّه النجاةُ من واقعه البائس.
“طلِعنا من ذُل وإجينا على ذُل أكبر”، قالها باختصارٍ الشاب محمد، مُضيفًا “نعيشُ في غابةٍ، والسلطات هُنا تُلقي بنا في منطقةٍ مُنعزلةٍ عن باقي البشر، يعتقلوننا ويُلاحقوننا، ولا يُعطونا سوى فتات المال”.
وتصرِف جمعيّات تابعة للأمم المتحدة مبلغًا ماليًا ضئيلًا جدًا لطالبي اللجوء في اليونان، لا يتعدّى 90 يورو شهريًا، ولمدة عامٍ، إلى حين حصوله على الإقامة، يليها البدء بإجراءات الترحيل.
طالبُ اللجوء الشابُ إبراهيم، تمنّى الرجوع إلى غزة، وقال “خرجنا من حربٍ وحصارٍ وجوعٍ لتأتي هذه السلطات وتضعنا في خيمةٍ غير آمنة، بلا طعام أو ماء أو كهرباء ولا يوجد بها شيء، ليتنا نعود للوطن”.
وأعرب الشباب الأربعة عن تذمّرهم من تناقل صورهم ومشاهد معاناتهم عبر وسائل الإعلام والاكتفاء بتوثيق حالاتهم من قبل هيئات حقوق الإنسان من دون تقديم أيّ مساعدةٍ حقيقيةٍ لهم تنتشلهم من مُستنقع المعاناة.
الباحث القانوني من غزة، محمد أبو هاشم، قال إنّ “الاتفاقات والمعايير الدولية المُلزمة لكل الدول تنص على أنّ حقوق الإنسان عالمية ويتمتع بها البشر كافة دون اعتبارٍ للحدود”.
وأضاف أبو هاشم أنّ “أيَّ اعتداءٍ على حقوق الإنسان، ومنها حقُّه في المأكل والمشرب والملبس، وحقه في سلامة جسده، وعدم التعرض للمعاملة القاسية وغير الإنسانية يعدّ انتهاكًا صارخًا لهذه الحقوق وتلك الاتفاقيات”.
وأكّد أنّ “للّاجئين حقوقٌ خاصة، منها اتفاقية حقوق اللاجئين لسنة 1951، التي تنصّ على أنّ لهم حقوق متساوية مع المواطنين ويجب التعامل معهم بإنسانية واحترام حقوقهم كافة، وأن لا يتم بأيّ حالٍ من الأحوال إبعادُهم إلى أيّ بلدٍ قد يتعرضون فيها لانتهاكاتٍ خطيرة لحقوق الإنسان”.
أصواتٌ عدّة خرجت من طالبي اللجوء تساءلت مرارًا حول دور السفارة الفلسطينية في اليونان تجاه اللاجئين، والأسباب التي تحول دون تقديم المساعدة لهم ووضع حدٍ لما يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون هناك من ذلٍ وقهر.
وكان آخر ضحايا الهجرة لأوروبا الشابان محمد المصري ومنير أبو شرخ، من غزة؛ إذ قضيا غرقًا في بحر الجزائر، أثناء محاولة الهجرة إلى إسبانيا، برفقة طالبي لجوء آخرين، في مركب “غير شرعي”.
تبقى الإشارة إلى أنّ هذه الظروف التي تدفع شبابَ غزة للهجرة منها، هي ذاتُها التي يُطالب سكّان القطاع اليوم بتحسينها، وتهيئتها للعيش الكريم بلا أزماتٍ تجثم على أنفاسِهم، ولا قيودَ تخنق حرّياتهم؛ كي لا يُجبَروا على الخروج من وطنهم إلى مصيرٍ مجهولٍ.
المصدر: بوابة الهدف