غزة تايم – قسم المتابعة
بعيدا عن ضجيج مدينتها المحاصرة داخل صالة رياضية مغلقة مخصصة لعرض فنون الرياضة الهوائية الاستعراضية، كانت تتدلى حبال القماش الزاهية الألوان من السقف، وعليها بدأت الشابة إيمان شاهين (25 عاما) التسلق بمرونة ورشاقة وحركات بهلوانية.
نجمة من السحاب
تحني جسدها للأعلى سارحة بخيالها وتفتح عيونها على أحلامها ثم تطير في الهواء علّها تخطف نجمة من السحاب ملتفة بالحبال الحريرية، ثم تعود لتهبط تزامنا مع صوت الألحان الموسيقية في محاولة للاسترخاء.
لم يكن ذلك المشهد الاستعراضي على خشبة مسرح عالمي بل في مدينة غزة، بين جدران مركز عائشة لحماية المرأة والطفل، الذي فتح أبوابه -بإمكاناته البسيطة- أمام مجموعة من النساء، لإيجاد مساحة لهن لتعلم فنون الرياضات الهوائية، فوجدن فيه ضالتهن للتخلص من طاقتهن السلبية وهموم معيشتهن اليومية.بعدما أنهت إيمان عرضها التدريبي أخذت نفسا عميقا وتحدثت قائلة “منذ صغري أحب ممارسة الرياضة بألوانها المتعددة وكبر معي هذا الشغف، سررت جدا عندما وجدت أن هناك مركزا بغزة يحتضن النساء ويعلمهن السيرك، لم أصدق حينها أن ما كنت أشاهده عبر شاشة التلفاز من عروض، جاء دوري لأقدمها بنفسي على أرض الواقع”.
ولا يقتصر ما تقوم بها إيمان على كونه رياضة فقط وإنما له أيضا دور كبير في تغيير مسار حياتها للأفضل على صعيد بناء شخصيتها، مما دفعها بشكل أكبر لتحدي الصعاب والنظرة المجتمعية التي تلاحقها، كما أنها وجدت فيه علاجا نفسيا يخلصها من الضغوط الحياتية التي تقابلها في ظل ما تعانيه من ظروف قاسية في مدينتها الغزيّة.
تأسيس مركز للرياضة الاستعراضية للفتيات
لأول مرة تتشارك في التمارين مئة فتاة توزعن على خمس مجموعات، بعدما قررن القفز عن العادات والتقاليد المجتمعية ورفضن الاستسلام لها واعتدن ممارسة الرياضة الاستعراضية بقسم الصحة النفسية والجسدية في المركز الوحيد الذي أسس لهذه الفكرة، رغم أن هناك ثلاثة مراكز لتعليم فنون السيرك تم إنشاؤها في القطاع عام 2016 لكنها اقتصرت على الذكور فقط دون الإناث.
فكرة تأسيس مركز للرياضة الاستعراضية للفتيات بغزة -حسبما أفادت ريم فرينة مديرة مركز عائشة- جاءت على يد مدربة إيرلندية حظيت بزيارة لغزة قبل سنوات، وعرضت فكرة هذه الرياضة على ثلاث فتيات، وعندما قوبلت بالموافقة من قبلهن منحتهن فرصة السفر لبلدها لتدريبهن على خوض هذا المضمار، وبعد أن أتقن هذا الفن عدن إلى غزة، وأردن توسيع تجربتهن مع فتيات بلدهن المرهقات من الحروب المتكررة على القطاع والحصار والقهر النفسي.
تقديم الدعم النفسي للمهمشات
وأضافت أن المركز تعاون مع الفتيات المتدربات ضمن مشروع تم تمويله من المؤسسة الكندية لتدريب الفئة المستهدفة التي وقع عليها الخيار بناء على معايير، فبعضهن تم اختيارهن من المركز ذاته وأخريات خريجات أحببن تطوير هوايتهن في هذه الرياضة في ظل عدم وجود مراكز ونواد تهتم بهذا الجانب، إضافة إلى أن المركز استهدف المهمشات لتقديم الدعم النفسي لهن ومساعدتهن للانخراط في المجتمع.
وأشارت فرينة إلى أن تعلم فنون الرياضات الاستعراضية بالنسبة للفتيات المستقطبات لم يقف على كونه ترفيهيا أو نفسيا؛ بل تطور ليكون داعما ماليا لهن، بتوفير مصدر رزق لبعضهن من خلال تدريب أخريات مقابل مبلغ مالي شهري.
تحديات ومحاذير
وعن أبرز التحديات التي واجهت القائمين على هذه الفكرة، قالت المدربة آمال خيال “لم تكن فكرة انطلاق تعليم فنون السيرك الاستعراضية للفتيات بغزة بالأمر السهل؛ لكنها الأصعب على الإطلاق نظرا للمحاذير المجتمعية السائدة والفهم المغلوط لدى الغالبية عن هذا الفن الرياضي، والتي ترى فيه ثقافة غربية وليست عربية، فكان علينا توضيح الفكرة للمجتمع بشكل مبسط واضح ليتقبلها”.
وأوضحت أنّ العديد من الأهالي رفضوا فكرة انضمام فتياتهم للمركز لممارسة هذا الرياضة الهوائية بداية الأمر، ولكن بعد إقناعهم وملامستهم للتغيير الذي حصل لقريباتهن، أيدوا الفكرة حتى جاءت بعض الأمهات للمشاركة في الرياضة نفسها التي كانت ترفضها كليا.
تدريب.. فاحتراف
كما بينت أن التمارين الاستعراضية تأخذ أشكالا متنوعة، منها ما هو بواسطة الحبال المعلقة، والعروض البهلوانية بوساطة الحلقات الدائرية، والقفز، وتكون عبر مراحل مبتدئة ثم تنتقل الفتيات لمرحلة متقدمة ثم للمرحلة الاحترافية، بعدها للفتاة حرية اختيار الاستمرار أو التوقف أو تعليم زميلاتها الأخريات بسبب عدم وجود مدربات في غزة.
وتأمل آمال في ألا يظل هذا الفن محليا بغزة، وتطمح أن ينتشر خارجها وأن تحظى الفتيات بفرصة السفر للتحليق خارج مدينتهن المحاصرة لأداء العروض بحرفية عالية، فهذا حلم بالنسبة لهن يطمحن لتحقيقه.
وتسبب الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007 بتدهور الحالة النفسية والوضع الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي للنساء في القطاع، إضافة للحروب المتكررة التي زادت أزمتهن، وهو ما دفعهن للبحث عن نافذة أمل جديدة لإنقاذ ما تبقى من حياتهن.