غزة تايم – لكل مسعف عمل في مخيمات العودة، حكاية ومواقف لا تنسى، بعضهم شاهد الموت أمامه، بعضهم نجى.. ومنهم من أصبح ذكرى قتله جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، وخطفت روحه في لحظة كان ينقذ حياة مصاب، فبدلاً من أن يحمل المسعف المصاب لسيارة الاسعاف، أصبح العديد من المسعفين مصابين وشهداء.
معركة أخرى يخوضها المسعفون مع جنود جيش الاحتلال، السباق في هذه المعركة يكون على دقائق معدودة، فهؤلاء الجنود يتعمدون استهداف مناطق قاتلة في جسم المشارك، لإحداث انفجار في الشرايين ينتج عنه نزيف شديد، وبالتالي يكون أمام المسعفين نحو ثلاث دقائق لوقف النزيف وانقاذ المصابين.
سندس عاشور “28 عاما”، مسعفة وممرضة متطوعة مع الهلال الأحمر الفلسطيني منذ سبع سنوات، كان 30 مارس/ أذار 2018م، نقطة الانطلاق في تطوعها بإسعاف المصابين والجرحى بـ مسيرات العودة، عاشت ومواقف صعبة وخطرة كفنت شهداء وتعاملت مع أصعب الحالات، تروي: “كان الدافع هو واجبي الوطني .. درسنا وتعلمنا حتى لا نجلس في بيوتنا؛ مهنتنا مهنة سامية، تعلمنا لتقديم أفضل خدمة” تقول عن سبب التحاقها في المسيرات.
مواقف ومحطات
بداية المسيرات؛ الأحداث “دراماتيكية”، قنابل غاز، رصاص كثيف، كانت “عاشور” وفريقها يتجولون بين المشاركين شرق مدينة غزة، لا يفر ذلك المشهد من ذاكرتها: “كان الفريق مقترب جداً من السياج الفاصل؛ فخشيت على حياتهم، صعدت تلة ترابية، كنت عرضة لطلقات الرصاص، بدأت أصرخ عليهم بالانسحاب، وبدأ الاحتلال يطلق قنابل الغاز”.
أثناء عودة “سندس” ورفاقها، صادفوا مسنا ملقى على الأرض مغمى عليه، ذهبت إليه مع مسعف آخر وحملوه لسيارة الاسعاف.
14 أيار/ مايو 2018م، لم تكن الأحداث عادية، عشرات الآلاف شاركوا في فعاليات مسيرة العودة، احتجاجا على نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس، وفي غمرة الأحداث كانت “سندس” تسعف المصابين، فجاء أحد المصابين.
أنزل المسعفون المصاب المحمول على “الشيالة”، كان أول اختبار صعب، عليها التعامل مع شخص مصاب برصاصة متفجرة في بطنه، تصف المشهد: “كانت أمعاؤه كلها خارج جسده”، والثاني تعرض لتهشم وتفتت في عضلة ساعده، بعدما أطالت النظر، تفاجأت أن المصابين هم أقرباؤها، تعترف: “حينما رأيتهم صدمت وشعرت بالخوف، بدأت لا أعرف ماذا أفعل، هل أبكي؟ أم أمارس عملي، لكنني تعاملت معهم مباشرة، ووضعت القرابة بجانبي ووراء ظهري وتعاملت معهما كما أتعامل مع المصابين”.
دقائق معدودة هي فترة تواجد مصاب آخر في النقطة الطبية، لا تنسى عاشور تلك اللحظة: “وصل ذلك الشاب المصاب كعشرات المصابين النقطة الطبية، كان مستيقظا وبحالة جيدة لكن كحال باقي المصابين بدأ بعد لحظات من الإصابة بتغير لون الجسم واشتداد الألم وظهور أعراض التهتك”.
سجلت اسم المصاب (أحمد الرنتيسي) بعد إجراء الاسعافات الطارئة له في غضون أقل من ثلاث دقائق، انتهى هذا اليوم واستيقظت في صبيحة اليوم التالي لتتفاجأ باسم ذلك المصاب على قائمة الشهداء.
قد يكون إسعاف المصابين على الممرضين والمسعفين مهما كانت صعوبته أهون من اسعافهم لبعضهم، فمشاعر الأخوة، تغلب متطلبات المهنة أحيانا، مسيرة نسائية على السياج خرجت على السياج، توزع فريق “سندس” على ثلاث مجموعات، “سرت مع مجموعتي بين المتظاهرين، وفجأة اشتد إطلاق النار وقنابل الغاز لإخافة النساء، ومع صعوبة الموقف أصيب زميلي، وأصبحت في حيرة بين اسعاف زميلي أو اسعاف عشرات النساء المصابات بالغاز” تعلق على أحد المواقف الصعبة.
معركة بين “المسعفين والجنود”
تقول عن طرق استهداف جنود الاحتلال للمتظاهرين: “الجندي والقناص الإسرائيلي، يعرف أين يطلق الرصاص، فهو يستهدف المناطق القاتلة إذا ما لحقتها خلال دقائق تؤدي إلى فقدان روح المصاب (..) هؤلاء الجنود لديهم دورات في التشريح، يعرفون اذا ما استهدفوا منطقة الوريد، فيكون أمام المسعف فقط دقائق معدودة لإنقاذ الحالة ووقف النزيف أو فقدانها، أو استهداف منطقة الفخذ حتى يفتح كل الشرايين”.
“المسعفون يقومون بربط “الوريد المغذي” بأكبر قدر من الشاش حتى يتوقف النزيف لغاية وصوله للمشفى، لكن هؤلاء يتعمدون استهداف أشخاص تكون مسافة وصول المسعف إليه أكبر من ثلاث دقائق حتى يصعب انقاذ حياته” لا تزال تتحدث عن تلك المعركة الخفية بين المسعفين وجنود الاحتلال في “الانقاذ والقتل”.
“سندس” التي تعرف بين أهلها وصديقاتها أنها رقيقة القلب، وخفيفة الظل، تخاف من مشاهد الموت، كان عليها هنا أن تعيش أول صدمة العمل متواصل، تجلس في الخيمة الطبية، صوت الاسعاف في الخارج يقترب نحوها بسرعة، وحركة المسعفين أسرع في إنزال الحالات القادمة، آثار تساؤلاتها الداخلية: (ترى ماذا حدث؟ وما نوع الاصابة؟)، وصل شاب ممد عينيه متضخمتين، لا يوجد نبض، تتوقف بكلامها هنا: “هذا أول صدمة لي، خاصة أن الطبيب طلب مني تكفينه في كيس الموتى، قمت بربط يديه و(تكتيف) يديه وقدميه، رفعت الوثيقة الشخصية، فوجدت ورقة مكتوب عليها كل ديون الشهيد، وكأنه مستشعر بدنو أجله”.
3 شهداء في يوم واحد
غسلت “سندس” يديها، وقفت على “باب الخيمة” تتأمل في المشهد السابق، مرت نصف ساعة، يسألها الطبيب: “انت منيحة”، لكنها بداخلها لا تعرف أتبكي أم تستمر بعيش الصدمة، “تكفين الموتى أو الشهداء له رهبة” تصف ما شعرت به، لكن الأمور لم تنته: “بعد دقائق جاءت سيارات الاسعاف تقل شهيدين، الأول أصيب برصاصة بأسفل الجمجمة، والثاني اخترقت الرصاصة رأسه ورقبته، انتهت بتكفين الشهيد الأول”.
ذهبت المسعفة المصدومة للشهيد الثالث، وجدته ممدا على الأرض، تغطي الدماء رأسه ورقبته، تواصل: “وضعت يدي على رأسي، كان سيغمى علي، تمالكت نفسي وأغمضت عينيه، ومسحت الدماء ونظفتها، ثم قمت بوضعه بالكفن (ظرف نايلون له سحاب) وقلبي كجمرة يبكي، ولكني كتمت حزني بداخلي”.
إصابة بالأعضاء التناسلية
من السياج الشرقي، إلى الشمال الغربي تحديدا نقطة المسير البحري “زيكيم” عاشت المسعفة المتطوعة، موقفاً لا يقل صعوبة عن سابقيه، تقول: “بينما كنت أراقب المشاركين، أصيب صحفي في الأعضاء “التناسلية” تعامل معه زميلي، وبقربه أصيب طفل “14 عاماً” أسفل البطن”.
يتألم الطفل و”سندس” تحقنه بالإبرة: “مش حاسس بشي .. بطني بوجعني”، قالت له: “الرصاص أسفل بطنك”، لا زال لا يشعر بشيء: “شو يعني تحت بطني”، تصف الموقف: “كان الموقف صعبا ومحرجا، الرصاصة كانت في الأعضاء التناسلية، ولكني كنت أحاول تهدئته”.
مرت دقائق، أصيب صحفي آخر بثلاث رصاصات أطلقها قناصة الاحتلال، واحدة ببطنه، وواحدة بصدره، والثالثة في الأعضاء التناسلية، كان من أصعب المواقف التي مرت بها “الدم الصحفي كان ينزف، وضعنا له خلال دقائق ثلاث محاليل لتعويض الدم، وجهه أصفر، النزيف متواصل، كانت حالته صعبة، وكان علينا وقف النزيف من عدة جهات”.
ما أن تحركت السيارة التي ركبتها المسعفة وفريقها، لبضعة أمتار حتى سقطت قنبلة غاز مباشرة على المكان الذي تحركوا منه، نزل الفريق يسعف المصابين، سندس صادفت مصابا سمينا تغطي شظايا قنبلة غاز أنحاء جسده، تتحدث عن ما حصل: “حملته وسندته على كتفي، وصرت أسير بسرعة به حتى ساعدني زميل لي ووضعناه في الإسعاف”.
انتهت سندس من عملها، عادت إلى سيارة الاسعاف، هاتفها يرن، نظرت فوجدت عدة مكالمات فائتة من والدها، ردت على الهاتف، وبدى صوتها مرتعشا: “انت منيحة .. روحتي”، طمأنته: “الآن تحركنا”، يسأل بخوف: “مين اللي استشهدت من المسعفات؟”، أخبرته أنه لا يوجد شهداء، تقول، بأن أحدهم كان قد أرسل رسالة هاتفية لوالدها كتب فيها: “عظم الله أجركم الله يرحمها”، فاعتقد أنها ابنته.
تجربة أولى
كيف كانت هذه التجربة بالنسبة للمسعفة؟ لا تخفي في ردها، أنها مرحلة مؤلمة من حياتها، لها جانب سيء وآخر حسن، تزيد: “كثيرا أفكر بالشهداء، ومن بترت قدمه، استذكر وجه الشهيد، عينه، شكله، المواقف الصعبة، تتساءل: متى سينتهي هذا القتل من قبل قناصة وجنود الاحتلال”.
لكن هناك جانب جيد بالنسبة لها من خلال التجربة، دعونا نتأمل ردها: “بغض النظر عن الشهداء وعدد المصابين، التجربة قوت شخصيتي، وأصبحت قادرة على التعامل مع أي كارثة، أكون شجاعة أكثر، كانت أول خبرة وتطبيق لما تعلمته في الجامعة”.
“يعتقد البعض أننا نذهب لإسعاف المصابين كي نحصل على أموال، أو أنه لا يوجد لدينا قلب وهم لا يعلمون أننا نترك بيوتنا، ونخاطر بحياتنا، ونتعب كثيرا، ونصاب بضغط نفسي حينما نرى الشهداء والمصابين، وأننا نخاف كثيرا على أحبابنا” بهذا تنتهي قصة مسعفة فلسطينية من قطاع غزة شهدت جرائم جنود الاحتلال الإسرائيلي بحق المتظاهرين السلميين المشاركين في مسيرات العودة وكسر الحصار.
المصدر: قدس الإخبارية