مجزرة جباليا مرة ثانية.. لا أحب المنافسة
مجزرة جباليا مرة ثانية.. لا أحب المنافسة

مجزرة جباليا مرة ثانية.. لا أحب المنافسة

Ahmed Ali
2022-11-14T12:41:38+03:00
أخبار الساعةأخبار فلسطين
Ahmed Ali25 أغسطس 2022

غزة – حمزة أبو الطرابيش

أحد الأشياء التي أستمتع بها أكثر من أي شيء آخر هو خوض منافسات مع أصدقائي المقربين. منذ الطفولة، كان هذا جزءًا مهمًا من شخصيتي. لست بصدد الحديث عن صفاتي بقدر أن هناك شيئًا أود إخباركم به.

في الآونة الأخيرة، هذا الشيء الذي أحبه – التحدي – أصبح لعنة لا يزال يطاردني. لربما أبالغ لو قلت أنه تحول لشيء قريب من العقدة النفسية، ففي كل مرة أدخل فيها تحديًا مع صديق، تقتله إسرائيل.

تحدي كرة القدم

في شتاء عام 2001 أي قبل عشرين عامًا بدأت حكايتي؛ وتحديدًا حين كنت في المرحلة الإبتدائية، إذ أجرت إدارة المدرسة بطولة داخلية لكرة القدم، كنت مهاجمًا مميزًا، في المباراة النهائية، جمعت بين فريقنا وفريق فصل صديقي يوسف شوقي النجار الذي كان متميزا بسرعته الفائقة.

كان يوسف صديقي وجاري، وكان لدينا تاريخ من اللعب في نفس الفريق وذقت معه لحظات الانتصار، ولكن في الصف الخامس وضعت إدارة المدرسة كل واحد منا في فصل مختلف.

قبل يوم من اللعبة النهائية، أجريت تحدي مع يوسف أنني سأحرز ثلاثة أهداف وأني سألحق به شر هزيمة، أذكر أنه رد بالقول أنه هو من سيحرز ثلاث أهداف وسيجعلني أبكي.

صباح اليوم التالي الذي كان يوم الخميس 13-12- 2001، انطلقت المباراة على ملعب المدرسة التابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الواقعة وسط مخيم جباليا المعروفة بمدرسة “السوق”.

الشكل الأول للمباراة المقسمة على شوطين كل شوط عشرة دقائق أظهر حدة المنافسة الشديدة بيني وبين يوسف، هو أحرز هدفين وأنا اتممت وعدي وانهت المباراة بنتيجة 4_2 لصالحنا وحصدنا البطولة.

أتذكر أن يوسف رفض مصافحتي في ذلك اليوم، وأذكر أيضًا أنه بكى.

بعد يومين من تلك اللحظة وتحديدا ظهيرة 15- 12- 2001، جاءني خبر من والدي وقع كالصاعقة على صدري، أخبرني أن صديقي يوسف قد قتل من قناصة إسرائيلية خلال اجتياح قوات الاحتلال لشرق مخيم جباليا.

كان هذا أول مرة أذق طعم الفراق، لم أستطع فعل شيء سوى البكاء، فعلا أوفى يوسف بوعده لي وجعلني أبكي.

يوسف كان أول شهيد من أصدقائي وانا في عمر العاشرة. أذكر أنني كل ما فعلته حصلت على صورة له والصقتها على بوابة دولابي.

آخر شيء أذكره بيني وبين صديقي يوسف هو بكاءه، كان غاضبًا بشدة، ببراءة الطفولة بقيت أتمنى أن يكون قد انتصر ضدي قبل رحيله. ربما بعد ذلك قد يغفر لي.

حنين والتوجيهي

تفحت عيني على هذه الدنيا، وأقرب صديقات أمي والتي اعتبرها أمي الثانية سميرة بعلوشة “50 عامًا”، فهي جارة قديمة وهي توأم روح أمي.

السيدة سميرة لديها تسعة أبناء أكبرهم فتاة تدعى حنين؛ حنين هي منافستي في البيئة التعليمية، لقد تفوقت عليها في المرحلة الابتدائية في المرحلة الاعدادية تفوقت علي، كانت بيننا منافسة شرسة منذ الصغر، أذكر أن حنين كانت تتمتع بقدرة حفظ عجيبة.

حين دخلنا في مرحلة التوجيهي في عام 2008، وخلال زيارتها لنا مع أمها، أجرينا تحدي بيني وبينها، قالت أنها ستحصد معدل 90%، كنت أعلم أنني لا استطيع منافستها ولكن أخبرتها أنني سأتفوق عليها لو بُعشر واحد.

ربما كان هذا هو التحدي الأصعب الذي واجهته على الإطلاق، خاصة وأنني لم أتوقع شيئًا أعلى من 85%، لكن حنين رفعت المستوى، وأردت أن أرتقي إلى مستوى التحدي.

عائلة بعلوشة كانت انتقلت من عند منزلنا منذ عامين من بدء مسابقة التوجيهي، واستقرت في منزل مغطى بالكرميد ملاصق لمسجد عماد عقل في منتصف مخيم جباليا.

في 27-12-2008، تعرض قطاع غزة لعدوان إسرائيلي شرس، لدرجة أن إسرائيل القت الفسفور الأبيض على سكان قطاع غزة.

بعد يومين من العدوان وتحديدًا في ليلة التي وافقت يوم الإثنين 29-12-2008، وتحديدًا في الساعة 11:50، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية، مسجد عماد عقل بثلاث صواريخ ثقيلة، استيقظت صديقة أمي سميرة على صراخ زوجها.

تقول: “الظلام كان يغطي كل شيء، شعرت بشيئ يكتم على نفسي ويضغط على جسمي، علمت أنني بين الأنقاض”.

بعد دقائق استطاعت سميرة التحرك، وبدأت بالبحث عن أطفالها. كان أصغر أطفالها براءة أسبوعين الذي حماها سريرها التي كانت تنام عليه.

زوجها أنور كان أيضًا خرج من الأنقاض، سلمت سميرة طفلتها براءة لزوجها. وبدأت تبحث عن محمد الذي كان عمره عام ونصف.

تكمل :”محمد كان ينام بجانبي، وجدت أسفل قديمي، استطعت إخراجه من تحت الأنقاض وسلمته لأحد الأشخاص الذين جاءوا ليساعدوانا”.

في الغرفة المقابلة كانت حنين وشقيقتها نائمات مع بعضهن، زميلي وصديقي رامي أبو دية مصور فضائية الأقصى، وجه الكاميرا على غرفة الفتيات.

وقتها كنت أنا وجميع سكان قطاع غزة يراقب على شاشة التلفاز محاولة إخراج حنين وشقيقتها من بين الأنقاض.

كنت أتمنى في ذلك الوقت لو كنت رجل دفاع مدني تمنيت لو كنت رجلًا أستطيع المشاركة في محاولة الانقاذ، فقد اكتفيت بالمراقبة، كنا فقط نبكي بشكل جماعي ونحن نشاهد التلفاز، فقط ما فعلته بجانب البكاء أن اضرب رأسي في الجدار لشعوري بالعجز وأنا أرى صديقتي وشقيقتها تحت الأنقاض.

بعد 3 ساعات تقريبًا خرجت حنين وشقيتها لكن كانوا عبارة عن جثث صغيرة.

والضحايا هم : حنين 17 عامًا وإكرام 14 عامًا، سمر 12 عامًا ، دُنيا 7 أعوام، جواهر 4 أعوام.

انتهت حنين، وانهيت أنا مسابقة التوجيهي بمعدل 77% وأنهيت الدراسة الجامعية وتزوجت وانجبت الأطفال، ولو كانت حنين على قيد الحياة لحصدت معدل 90% أنا أعلم كم هي عنيدة وستصبح معلمة لغة عربية تمامًا كما وعدت.

بعد مضي أعوام على تلك الحادثة، التقيت بإيمان وهي أصغر من حنين بعام والتي تم انتشالها حية من تحت الأنقاض وتعرضت لقطع في الوتر واليوم هي متزوجة ولديها طفلين.

تقول:”طوال الثلاث الساعات كانت حنين تنادي علينا واحدة واحدة، وتخبرنا أننا سنخرج وسنكون بخير، كل دقيقة كانت تنادي على أسمائنا ولكن مع مرور كل مدة من الزمن كان يختفي صوت من أصوات أخواتي التي كانن يبكن وتحاول حنين تهدأتهن”.

تختم إيمان :”اخر صوت سمعته كان لحنين، التي اختفى صوتها تدريجيًا، وبعدها فقدت الوعي ووجدت نفسي في المشفى”.

مجزرة مكررة

قبل غروب اليوم التالي من عدوان أغسطس 2022، خاطرت بنفسي وذهبت إلى مخيم جباليا لإطمئان على أمي وعائلتي.

حين وصلت وطمأنت على العائلة، التقيت بصديقي حازم زقول، وأجرينا حوار حاد على أن إسرائيل لا يمكنها أن ترتكب مجزرة بحق المدنيين تجنبا لدخول جولة عسكرية على غرار جولة 2021، كان مقتنع أن إسرائيل قد ترتكب مجزرة بأي لحظة فيما أنا كنت معارض للفكرة.

كان حديثنا دائر ونحن نتجول في شوارع المخيم الذي كان مكتض بالمواطنين، فدرجة الحرارة العالية وانقطاع التيار الكهربائي دفع سكان مخيم جباليا للجلوس على مفترقات الأزقة والشوارع رغم خطورة الشيء.

انتهيت من الجولة الخاطفة في المخيم، وكنت متعهد لحازم أن إسرائيل لن ترتكب مجزرة فيما كان صديقي واثق بأن يحصل ذلك.

آخر نقطة تفرقنا عندها كانت مقابلة مسجد عماد عقل في منتصف المخيم، بمساعدة صديق لي آخر لديه دراجة نارية أوصلني لمنزلي الواقع غرب غزة.

ما إن وصلت ودخلت المنزل، فتحت صفحات تتبع الأخبار العاجلة، صدمني خبر وقوع مجزرة في محيط مسجد عماد عقل الذي تركته منذ دقائق.

خلال تتبعي عاد شريط ذاكرتي لمجرزة عائلة بعلوشة؛ المجزرة في نفس المكان والقاتل واحد ولكن أسماء القتلى هذه المرة مختلفين ومن عوائل مختلفة، وقد ارتقى 9 شهداء من بينهم 4 أطفال وأصيب عشرات الجرحى.

تكرر معي المشهد بكيت وضربت رأسي بالجدار كما فعلت قبل 14 عاما من شدة العجز ولكن الشيء الوحيد المختلف هذه المرة هو أنني أصبحت أجيد تتطويع الكلمات لصياغة هذه المقالة لأفرغ عجزي وقهري.

بعد ما انتهى العدوان زارتنا سميرة بعلوشة، وهي كانت أحد شهود العيان على مجزرة 2022.

تقول: “حين سمعت القصف وبدأ الدخان ورائحة البارود يتسلل من النافذة وبدأت أشم رائحة الدماء، نزلت إلى الشارع أبحث عن ابني محمد الذي أصبح 16 عامًا”.

كان سميرة أول الأشخاص الذين وصلوا المجزرة، بدأت تبحث عن ابنها بين الجثث، تكمل: “كانوا جميع الشهداء في مكان واحد، كان كل واحد يجلس أمام منزله، لم أجد ابني من بين القتلى، توقعت أن يكون من بين المصابين”.

حملت سميرة نفسها إلى مستشفى الأندونيسي شمال المخيم، ولم تجد محمد، في ذلك الوقت بدأت تدخل سميرة في حالة هستيرية. لكن لحسن الحظ محمد لم يصب بشيء إذ غادر المكان قبل وقوع المجزرة بدقيقة.

تختم سميرة:”وأنا أبحث بين الجثث، عادت بذاكرتي لـ 14 عامًا وتذكرت بناتي، محمد نجى في أول مرة وهو ينجو مرة أخرى أتمنى أن يبقى على قيد الحياة ويدرس المحاماة ليوثق ويقاضي إسرائيل في مقتل شقيقاته”.

في النهاية من يقرأ هذا قد يعتقد أنني أحمق لأنني ما زلت أشعر بالذنب بشأن التنافس مع يوسف وحنين. أتمنى لو لم أفعل ذلك أبدًا، وأنا نادم على ذلك الجدال مع حازم في عام 2022. ربما لم يكن ليغير أي شيء، لكن على الأقل لن أشعر بالذنب بعد الآن.

كلمات دليلية
رابط مختصر
Ahmed Ali

رئيس التحرير لدى غزة تايم، عملت سابقاً صحافي ومعد تقارير لدى العديد من الوكالات المحلية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.